الحمد لله الذى جعل القرآن يَهدِى لِلّتى هى أقومُ و أحكمُ، والصلاة والسلام على رسولنا المبلّغ من القرآن ما هو المجملُ والمحكمُ. وعلى آله وأصحابه الذين هم صاروا رايات دينٍ أَساسُه مشيّدٌ و مستحكمٌ. وبعدُ:

إن القرآن الكريم نزل بلسان عربيٍّ لأَن يفهمه الناسُ ويعملوا بما فيه. ومما يَخطُر بِبالِ البشَر فى هذا الصدد: إنْ كان القرآن نزل لِفَهم الناس ما فيه لمِاذا نزل بلسان قومٍ دون ألسنةِ سائر الناسِ؟ ونقول فى جواب هذا السؤال؛ نزول القرآن بجميع الألسنة مما يُعدُّ مستحِيلاً فى عقول الناس. إذْ لا يُمكن أن يَنْزل الوحيُ الإلهى بجميع ألسنة الناس فى دفعةٍ واحدةٍ. إِذنْ لزم الترجيح بين ألسنة الناس بأسباب الترجيح. فتعيَّن  لسان العربيّة لمزاياه ولأفضليّته  على سائر الألسنة.

إن الله عزّ و جلّ أرسل رسله إلى قومهم ليبَلِّغوا رسالاتِهِ اليْهِم. و أرسل كلَّ رسولٍ إلى قومه بلسانه كما أفاد ذالك بقوله سبحانه :  {وَمَٓا اَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ اِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْۜ فَيُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشَٓاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَٓاءُۜ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَك۪يمُ} ﴿سورة إبراهيم، ٤﴾ ويُبحَث فى الآيات الأُخرى أن القرآن أتى من السماء لتفكّر الناس فيما يَنطِقه ويخُبِرُه.    

فالتفكر فى آيات القرآن أمر ضروريٌّ لنا لفهمِ شرعِ الله المنزّل. ولكن قبل التفكر يجب علينا أن نُأَسِّس ضوابطَ التفكير للفهْم الصحيح. ومنشأ ضلالة الفِرق الماضية وتصوِّرهم الفاسدِ من عدم هذه القواعد التى لا بد منها للوصول الى النتائج المستقيمة. كلٌّ ادعى شيأً ولا يزال يدعى. والعجيب فى هذه النقطة أن كل حزبٍ يجعل القرآن مَسْندًا ومصْدراً لدَعواه.

فالقرآن صار مرجعًا لكل من يريد أن يثبت شيأً من المسائل الدينية أو الدنيوية. سواءٌ كانت هذه المسألة توافق أصول الدين أو لا. كما استدل الخوارج فى التاريخ لإباحة دمِ سيدنا عليٍّ بقول الله عزّ و جلّ؛    {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} ﴿ سورة الأنعام، ٥٧ ﴾ مدّعين بأنّ اتخاذ الحَكَم من الناس للمُصَالحة كفرٌ. والكافرُ يَحِلُّ دمُه و يَجب قتلُه. وبهذ القضية التى أضافوها إلى القرآن، واستنبطوا مطلوبها الخبَرِيَّ من خِلال الآياتِ حَكَموا بكفر ختَن النبي وأسدِ الله وخليفةِ المسلمين وقَتَلوه.

[موقف الصَّحابة مِن فَهْمِ القُرآن]

إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام نرى أن الصحابة فهِموا القرآن كما أراد الله عزّ و جلّ وطلب. وهذا ثابت بشهادة القرآن. يقول الله عزّ و جلّ: {~~2.137~
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية… ﴿سورة البقرة،١٣٧﴾ وهذه الآية الكريمة تدل بإشارتها على أن قسطاس الهداية فى فهم القرآن هو موافقة الرأي آراء الصحابة فى تفسير القرآن. لأن سيرتهم كانت على المنهج الصافى ومَعينة العذب. وإذا أرادوا أن يفهموا آية كان يمكن لهم أن يسألوا رسول الله معنى هذه الآية ويتعلموا منه. وهذه الخصوصية دون غيرها تكفى لأن يكونوا أفهمِى الناس بالقرآن. لأن القرآن نزل على النبي صلّى الله عليه و سلّم وهم شاهدوا نزوله مباشرة.

كانت الصحابة يتعلمون القرآن لإجْراء ما فيِه فى حَياتهم. لهذا إذا تعلم أحدٌ منهم عشْرَ آياتٍ لم يكن يُجاوِزُها حتّى يتعلم ما فيها من العلم والعمل والحكمة. ولم تكن أُمنِيّتُهم أن يطّلِعوا على كلّ آيةٍ من غير أن يعملوا بمقتضاها. بل كان الهدَف عندهم من تلقّى الآيات أن يفهموا القرآن موافقا لمراد الله ثم أن يعملوا بما فيها من الأحكام المختلفة. ولهذ نراهم لا يستكثرون من الآيات القرآنية فى جَلسةٍ واحدةٍ ولا يهْوون -مثل هوى أبناء الزمان-  أن يجتمع عندهم الآيات الكثيرة فى زمن قصير. بل جعلوا هَمَّهم من أخذِ الآيات نيل التقوى ورضاء الله.  فهم صاروا بهذا السبب فى العلم والفضيلة فى أعلى درجات الكمال. كما قيل: من عمِل بماَ علِم ورَّثَه الله علم ما لم يعلم.

وعلماء الإسلام اعترفوا لهم بالفضل و السبق فى تفسير القرآن. وتجد العلماء يعتمدونهم فى بيان الأحكام وفهم النصوص، ويتخيرون من أقوالهم إذا اختلفوا غير خارجين عنها الى غيرها. ومن نظر الى تفاسيرهم

و وَازنَها بأقوال المتأخرين يفهم أفضلية آراءهم على سائر ألأقوال. ومن هنا تبيّن أن فهم القرآن بدون توسط الصحابة غير ممكن وأن العلامة الفارقة بين فهم أهل الهدى وأهل الضّلال هي أن يُجعل الصحابةُ واسطةً لفهم الوحي الإلهي من طرف أهل السنة وعدم المبالات الى آرائهم فى التفسير من من ناحية أهل البدعة. وعلامة المذاهب الزائغة الحديثة أيضا هي هذه الخصوصية لا غير. فهم اتبعوا أسلافهم فى ازدراء أقوال الصحابة و اتجاهاتهم فى القرآن فضلّوا و أضلوا.

ونتيجة هذا الأمر؛ أن الصحابة وقفوا وراء النبي فى كل أمر عموما وفى فهم خطاب الله خصوصا. أَمرَهم القرآن ألا يتقدموا بين يدي الله ورسوله فتمسكوا بهذا الأمر و نبذوا أفكارهم، وأذواقهم، و أُمنِيّاتهم وراءهم واقتفوا أثر النبي. ولنأت بمثال لتوضيح موقفهم تجاه قول النبي: روى البخارى عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال : خطبنا النبي صلى الله عليه و سلم يوم النحر قال:  أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:  أليس يوم النحر؟  . قلنا: بلى قال:  أي شهر هذا  . قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال:  أليس ذو الحجة  . قلنا: بلى قال  أي بلد هذا  . قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:  أليست بالبلدة الحرام  . قلنا: بلى قال:  فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت  . قالوا: نعم قال:  اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض(البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، رقم: ١٦٥٤)  ففى هذه الحادثة أن السؤال الذى وجّهه النبي الى الصحابة بسيط كما رؤي. ولكن الصحابة لم يجيبوا فى الوهلة الأولى بسبب خوفهم أن يتقدموا بين يدي رسول الله فيبطل أعمالهم. ففى الروايات الأخرى أنهم قالوا للنبي: ألله و رسوله أعلم. ومن لسان  الواقعة نستنبط هذه النتيجة: لو كانت الصحابة لم يتقدموا بين يدي رسول الله فى سؤال بسيط غير متعلقٍ بأمور الدين فتكلمهم فى كتاب الله بأن يُهملوا قول النبي مستحيل.

 

[حُدثاء الاسْنان لم يشهدوا شيأً ومع هذا يُعلِّمون الصَّحابةَ ما يُشاهِدونه]

 

و حدث بعض الناس حُدَثاء الأسنانِ سُفهاءُ الأفهام. ونشأ معهم فهْمٌ لا يرى تفسير الصحابة لازما لفهم القرآن. وهم ما اكتفوا بهذا بل جاوَزوا الحد و حَاوَلُوا ان يُعَلِّموا الصّحابة ما شَاهدوه و اسْتمعُوه من مُبَلّغِ الوَحْي. وهذا الموقف كان ينشأ من حس استغنائهم مما سوى أفكارهم و ظنهم أن عقولهم كافية لهم لفهم القرآن. والحال أن المهاجرين والأنصار كانوا محتاجين بعضهم لبعضٍ فى فهم بعض الآيات. لأن من المحتمل أن يرى البعض ما لم يُشاهده الآخَرون. ومن قبيل “إنما يظهر الشئ بِمثاله ويَقوى بدليله” نُحِبّ أن نأتي بمثال لتوضيح المسئلة:

روى الحاكم فى المستدرك (رقم:  ٨١٣٢)  أُتي برجل من المهاجرين الأولين وقد كان شرب فأمر به أن يجلد فقال : لم تجلدني بيني و بينك كتابُ الله عزّ و جلّ ؟ فقال : عمرُ رضي الله عنه : في أي كتاب الله تجد أني لا أجلدك ؟ فقال : إن الله تعالى يقول في كتابه { لَيْسَ عَلىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُناَحٌ فِيمَا طَعِمُوا } فأنا من الذين آمنوا و عملوا الصّالحات ثم اتقوا و آمنوا ثم اتقوا و أحسنوا شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرًا و الحديبية و الخندق و المشاهِد فقال عمرُ رضي الله عنه : ألا تردُّون عليه ما يقول ؟ فقال ابنُ عباسٍ : إنَّ هذهِ الآيات أُنزلت عذرًا لِلْماضين و حجةً على الْباقين لأن الله عز و جل يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصَابُ وَ الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى و من الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و آمنوا ثم اتقوا و أحسنوا فإن الله عز و جل قد نهى أن يشرب الخمر فقال عمر رضي الله عنه : صدقت فماذا ترون ؟ فقال علِيٌّ رضي الله عنه : نرى أنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى و على المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر رضي الله عنه فجلد ثمانين

[الجُمودُ على الظاهر آفة فى فهم النصوص]    

مقصِدنا من الجمود على الظاهر أن يقرأ القرآن الكريم وأن يحاول أن يفهم معانيه بدون رعايةٍ لقواعد فهمه. لأن الفهم فى حد ذاته أمر دقيق جدا. وإذا لوحظ حول فهم خطاب الله يكون أدق. ولهذا أورد الإمام السيوطي شرائط لمن يريد تفسير القرآن الكريم و أدخل تفسير من فقد هذه الشروط تحت “التفسير المردود.” (التحبير فى علم التفسير، ص. ٢٣٣،٢٣٧ )

وأشهر فتنة حدثت فى أواخر الزمان حول فهم القرآن هي طريق الاعتماد على القرآن دون السنة. وهذا الفكر نشأ فى بلادنا بجهود ترجمة القرآن قبل ثمانين سنة بعد دور التنظيمات. كانت بعض الشعارير فى هذا الزمان يُصِرّون على أن يترجم القرآن الى اللغة التركية بشعار “الأتراك يفهمون القرآن.” وفى حقيقة الأمر كان الهدف من هذه الفعّالية أن ينشأ إدراك فى هذه البقعة يقرأ ترجمة القرآن و يبني دينه وفقهه على هذه الترجمة. وأيضا يهدفون بهذا أن يقام ترجمة القرآن مقام أصله وألا يعتبر للسنة النبوية فى فهم القرآن.   وانتشرت هذه الفعّالية فى كل البلاد حتى وصل الى أن يقول بعض الناس مُشيرِين الى الترجمات التى فى أيديهم “هذا القرآن وحده يوصلنا الى الصراط المستقيم، ولا نعرف لديننا مصدرا ثانيا سوى القرآن.”

وهذا الطريق كان تهلكة للمسلمين فى كل دور من تاريخ الإسلام. و مشّاءوا هذا الطريق صاروا رذلاء أمام الناس. لأنهم لم يسلموا من الاستدلالات الغريبة و من الاستنباطات المضحكة المبكية. ولننقل بعض الفقرات التى تكشف أحوال من استحسن هذا الأسلوب. يقول الدكتور حسين الذهبي فى كتابه ’التفسير والمفسرون‘٢٣١ -٢٢٩/ ٢)  ما نصه:    

 هذا .. وإن الخوارج عندما ينظرون إلى القرآن لا يتعمقون فى التأويل ولا يغوصون وراء المعانى الدقيقة، ولا يكلِّفون أنفسهم عناء البحث عن أهداف القرآن وأسراره، بل يقفون عند حرفية ألفاظه، وينظرون إلى الآيات نظرةً سطحية، وربما كانت الآية لا تنطبق على ما يقصدون إليه، ولا تتصل بالموضوع الذى يستدلون بها عليه، لأنهم فهموا ظاهراً معطلاً، وأخذوا بفهم غير مراد.

ولقد يعجب الإنسان ويدهش عندما يقرأ ما للقوم من سخافات فى فهمهم لبعض نصوص القرآن، أوقعهم فيها التنطع والتمسك بظواهر النصوص، ولكى لا أُتهم بالقسوة فى حكمى هذا، أضع بين يدى القارئ الكريم بعض ما جاء عن القوم، حتى لا يجد مفراً من الحكم عليهم بمثل ما حكمت به.

“رُوىَ أن عبيدة بن هلال اليشكرى اتُهِمَ بامرأة حدَّاد رأوه يدخل منزله بغير إذنه، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، فقالوا: إنَّا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا .. ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنَّا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتونى يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال: إنى جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البرئ .. فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}  الآية…﴿١١﴾ وما بعدها من سورة النور – فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه وقالوا: استغفر لنا .. ففعل”.

 

“ويُروى أن واصل بن عطاء وقع هو وبعض أصحابه فى يد الخوراج فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعونى وإياهم – وكانوا قد أشرفوا على العطب – فقالوا: شأنك.. فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم. قال: فعلِّمونا، فجعلوا يُعلِّمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلتُ أنا ومَن معى. قالوا: فامضوا مصاحبين يُعلِّمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلتُ أنا ومَن معى. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ﴿سورة التوبة، ٦﴾ . فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن”.

ومن الخوارج مَن أدَّاه تمسكه بظاهر النصوص إلى أن قال: “لو أن رجلاً أكل من مال يتيم فلسين وجبت له النار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ﴿سورة النساء،١٠﴾ ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه لم تجب له النار، لأن الله لم ينص على ذلك”.

وهذا هو ميمون العجردى زعيم الميمونية من الخوارج، يرى جواز نكاح بنات الأولاد وبنات أولاد الإخوة والأخوات ويستدل على ذلك فيقول: “إنما ذكر الله تعالى فى تحريم النساء بالنسب الأُمهات، والبنات، والأخوات، والعمَّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأُخت، ولم يذكر بنات البنات ولا بنات البنين، ولا بنات أولاد الإخوة، ولا بنات أولاد الأخوات”.

 

ويُروى أن رجلاً من الإباضية أضاف جماعة من أهل مذهبه، وكانت له جارية على مذهبه قال لها: قَدِّمى شيئاً، فأبطأت، فحلف ليبيعها من الأعراب، فقيل له: تبيع جارية مؤمنة من قوم كفار، فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية… ﴿سورة البقرة، ٢٧٥﴾

 

وأيضاً نرى أن الخوارج خرجوا على عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وقالوا: لِمَ خرجت من بيتها، والله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}؟ الآية… ﴿سورة الأحزاب، ٣٣﴾

 

وأيضاً فإن الأزارقة قالوا: مَن قذف امرأة محصنة فعليه الحد، ومن قذف رجلاً محصناً فلا حد عليه، وهذا لأن الله تعالى نص على حد قاذف المحصنات، ولم ينص على حد قاذف المحصنين.

 

وقالوا – أيضاً – بأن سارق القليل يجب عليه القطع، أخذاً بظاهر قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} الآية… ﴿سورة المائدة، ٣٨﴾

وغير هذا كثير نجده عندهم فى بطون الكتب، وهو لا يدع مجالاً للشك فى أن الخوارج قوم سطحيون فى فهمهم لآيات القرآن الكريم، وإدراك معانيه. انتهى      

إذا نظرنا الى مثل هذه الحوادث نرى أن الجمود على ظاهر و متون الآيات من غير مراجعة الى سبب نزوله، وكيفية الروايات فى تفسيره مرفوعا، وموقوفا ومقطوعا، وناسخه و منسوخه و سائر وجوهه آفة كبيرة فى فهم النصوص. ونرى مثل هذه الاحوال فى زمننا  فى تفسير المآليّين الذين يدعون أن مآل القرآن وترجمته كافٍ للإنسان فى فهم مراد الله من آيات القرآن. فهم فى كثير من الأزمان لا يستطيعون أن يخلصوا من أن يقعوا فى مثل هذه المواقف المضحكة.

نريد أن نختم بأن ننقل روايتين متعلقتين بمسألتنا من الصحابيين الجليلين؛ معاذ بن جبل و ابن عباس…نشاهد فى هاتين الروايتين أنهما رأوا قراءة القرآن من غير مراجعة للعلوم اللازمة لفهم القرآن تهلكة لاجتماع الإسلام وسببا لظهور الفتن المختلفة بين المسلمين.   

 

[من معاذ بن جبل الى المآليّين]

حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَمْدَانِىُّ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىَّ عَائِذَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ قَالَ كَانَ لاَ يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ حِينَ يَجْلِسُ إِلاَّ قَالَ اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ مَا لِلنَّاسِ لاَ يَتَّبِعُونِى وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِىَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلاَلَةٌ (أبو داود، كتاب السنة، رقم: ٤٥٩٦)

[المآليون فى منظور ابن عباس ]

أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن علي بن بذيمة عن يزيد بن الأصم عن بن عباس قال قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال يا أمير المؤمنين قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا فقال بن عباس فقلت والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة قال فزبرني عمر ثم قال مه قال فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا فقلت قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه قال فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع وما هو إلا الذي تقبلني به عمر قال فبينا أنا على ذلك أتاني رجل فقال أجب أمير المؤمنين قال خرجت فإذا هو قائم ينتظرني قال فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا قال فقلت يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني استغفر الله وأتوب إليه وأنزل حيث أحببت قال لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل فقلت يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا ومتى ما يحيفوا يختصموا ومتى ما يختصموا يختلفوا ومتى ما يختلفوا يقتتلوا فقال عمر لله ابوك لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها (عبد الرزاق، المصنف، باب الخصومة فى القرآن، رقم:٢٠٣٦٨(